ads header

أخبار الموقع

الانعتاق بقلم أحمد سليمان أبكر


 قصة قصيرة:

***

الانعتاق

ذهب بصورة القوي المعتز بثقافته وقيمه،وعاد بصورة الضعيف الذي أفرغت فيه ثقافة الغرب أصباغها إفراغًا،ثم ما لبثت أن طلعت علي هذه الأصباغ شمس المشرق حتى تتطايرت ذراتها في أجواء السماء وقد أضحت المدنية الغربية من نفسه مكان الوجه من المرآة؛ إذا انحرف عنها زال خياله منها.أكمل دراسته،طفق بعينه البراقتين يثرى عدد من العلاقات العاطفية العابرة، انتهي به الأمر بأن تعرف على فتاة غربية، استغراق في حبه  لها، حتى ظن أنه حب دائم لا تغيّره حوادث الأيام، ولا تنال منه الصروف، وليته عقل أن الحب لون من الوان النفس، وعرض من أعراضها الطائرة، تأتي به شهوة وتذهب به أخرى. حاول أن يتعايش معها،واهم نفسه بأنه قد نال كامل حقوقه في بلادها، لكنه اكتشف أن الواقع غير ذلك، وأن مساحة الحرية التي يحياها، هي فقط مجرد توافق مع حياة كبت التي كان يعيشها، بل أن ذات الحرية التي يتوهمها هي في حقيقتها حرية تلك الفتاة  التي أعطتها الحق في التغيير والبحث عن الآخر ومَثلها في ذلك كمثل فستان ترتدته في سهرة وتخلعه قبل طلوع الصباح. لقد وجد نفسه لا يعرف للثقافة الغربية مغزًى ولا ينتحي بها مقصدًا، وأن الخطوة التي خطها إليها  تُدنِي إليه أجله،وتدنيه من مهوى سحيقٍ يُقبر فيه قبرًا لا حياة له من بعده إلى يوم يُبعثون. 

لقد جاء بها إلى مجتمع  تدور فيه  القيم حول الأسرة، لا كمجتمعها الذي تدور فيه القيم حول الفرد، وفي مجتمع اليد العليا فيه للأسرة  وليس للفرد سوي الانتماء إليها والانصياع لها، لا كما في الغرب فالفرد هو سيد مصيره، وتنتهي حضانة أسرته له حين يبلغ رشده. 

فما أن طال عهدها ببلاده، وقد خلت يده من المال، وحُرمت النعيم الذي تنعم به، حتى شُغلت عنه وعن شأن الحب ولذئذه، وسرى إلى نفسها الضجر والملل، وامتدت تلك السآمة بينهما إلى أبعد غايتها وقد ضاقت بعيشة الكبت والقيود التي يحياها مجتمعه، فحنت إلى حياتها الأولى حياة الأنس والاجتماع، والضوضاء واللجب في بلادها بلاد الحرية الشخصية المطلقة، وذاك هو الذي دفعه بأن ياتي بها إلى بلاده، فهو فتى شرقي غيور مستطار! أنفت نفسه أن يزاحمه فيها مزاحم، فتمتد يده بشر إلى ذلك الذي يزاحمه، وعندها كان سيكون مصيره إما السجن أو الطرد. ولكن يا لبؤسه فهو لم يزال يقاسي ويعاني منها  الموت الأحمر، والشقاء الأكبر، حتى  وهي معه هنا في بلاده، إنها فتاةٍ غربية في جميع شئونها وأطوارها، وهو رجل شرقيٌّ بفطرته، أما غربيته فهي متكلفةٌ متعمَّلة يدور بها لسانه ولا أثر لها في نفسه، فهو لا يزال رجلًا غيورًا شريفًا، هذا التضاد حرّك في دواخله مرارت الندم وقد اتسعت الهوة بينه وبينها حتى انفصلا وعادت إلى بلادها.

رغم أنه ألقى بكل ذلك الحب وراء ظهره وتنكّر لتلك الأيام الخوالي،وهو الذي أشعل نار الحب في قلبها، ثم لم يتعهده بالتأجيج  حتى انطفأت واستدالت جمرته إلى رماد.بل وتراجعت آلامها وأحزانها إلى زاوية منفردة من زوايا قلبها فكمنت فيها،ولم تعد تشعر بها أو تذكرها إلا كما يذكر المستيقظ حلمًا ضئيلًا من أحلامه المزعجة ساعة ثم يمضي لسبيله،  تحرك قلب هاجر إليه وقد صفحت عنه واجتمع شملهما وهي التي صبرت مر السنين.

***


ليست هناك تعليقات